رمضان فرصة للتقوى
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان فرصة للتقوى
أيها
الإخوة في الله - هاهو رمضان قرب مجيئه بنوره وعطره ، وخيره وطهره ، يجيئ
ليربي في الناس قوة الإرادة ورباطة الجأش ، ويربي فيهم ملكة الصبر ،
ويُعودُهم على احتمال الشدائد، والجَلد أمام العقبات ومصاعب الحياة .وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يهنئ أصحابه عند مجيئ رمضان ويبشرهم ويقول لهم
:" أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة
و تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه مردة الشياطين و فيه ليلة هي خير من
ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"..[ أخرجه احمد والنسائى عن ابى هريرة وفى
صحيح الجامع برقم:55] ....وفى رواية عند الترمذى والبيهقى وابن حبان عنه
أيضا:" و ينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و
لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة"
*
فرمضان مدرسة تربوية يتدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف
عند حدود ربه في كل شيء ، والتسليم لحكمه في كل شيء ، وتنفيذ أوامره
وشريعته في كل شيء ، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء ،
ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعاً عن كل ما لا ينبغي بتدربه الكامل في هذا
الشهر المبارك ، ليحصل على تقوى الله في كل وقت وحين ، وفي أي حال ومكان ،
وذلك إذا اجتهد على التحفظ في هذه المدرسة الرحمانية بمواصلة الليل مع
النهار على ترك كل إثم وقبيح ، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله ....
لينجح من هذه المدرسة حقاً ، ويخرج ظافراً من جهاده لنفسه ، موفراً مواهبه
الإنسانية وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه فحري بهذا الشهر أن
يكون فرصة ذهبية ، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات ، واستدراك ما
هو آت ، قبل أن تحل الزفرات ، وتبدأ الآهات ، وتشتد السكرات....حرى بأن
يكون فرصة للتقوى:
وذلك لِما يسر الله تعالى فيه ، من أسباب الخيرات ، وفعل الطاعات ، فالنفوس فيه مقبلة ،والقوب إليه والهة .
ولأن رمضان تصفد فيه مردة الشياطين . فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه
في غير رمضان ، وفي رمضان تفتح أبواب الجنان ، وتغلق أبواب النيران ، ولله
في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار ، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير
من ألف شهر ، فما أعظمها من بشارة ، لو تأملناها بوعي وإدراك لوجدتنا
مسارعين إلى الخيرات ، متنافسين في القربات ، هاجرين للموبقات ،تاركين
للشهوات....متخذين من رمضان فرصة للتقوى:
وليكن حالنا فيه حال من يقول:
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح *** هــذا أوانُ تبتلٍ وصـــلاح
واغنم ثوابَ صيامه وقيامه *** تسعد بخيرٍ دائمٍ وفـــــلاح
نعم
فرمضان فرصة للتقوى: .. ليصبح العبد من المتقين الأخيار ، ومن الصالحين
الأبرار . يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فقوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
تعليل لفرضية الصيام ؛ ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العظمى . وهي تقوى
الله وهى التي سأل أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه الصحابيَ الجليل ؛
أُبيَ بن كعب رضي الله عنه عن معنى التقوى ومفهومها ؟ فقال يا أمير
المؤمنين : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال : بلى .. قال : فما صنعت ؟ قال :
شمرتُ واجتهدت .. أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه ، قال أُبي:
فذلك التقوى .
إذن
فالتقوى : حساسيةٌ في الضمير ، وشفافيةٌ في الشعور ، وخشيةٌ مستمرة ،
وحذرٌ دائم ، وتوق لأشواكِ الطريق ؛طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ
الرغائبِ والشهوات ، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس ، وأشواكُ الفتنِ
والموبقات ، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء ،
وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً ، وعشراتٌ غيرُها من
الأشواك
هذا هو مفهوم التقوى .. فإذا لم تتضح لك بعد .. فاسمع إلى علي رضي الله
عنه وهو يعبر عن التقوى بقوله : هي الخوفُ من الجليل ، والعملُ بالتنزيلُ
، والقناعةُ بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل . هذه حقيقة التقوى ، وهذا
مفهومها فأين نحن من هذه المعاني المشرقةِ المضيئة ؟ .. لقد كان المجتمعُ
الإسلاميُ الأول مضربَ المثل في نزاهتهِ ، وعظمةِ أخلاقه ، وتسابقِ
أفرادهِ إلى مرضاةِ ربهمِ جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، وكانت التقوى سمةً
بارزة في محيا ذلكِ الجيلِ العظيم الذي سادَ الدنيا بشجاعتهِ وجهاده
،وسارت بأخلاقهِ وفضائلهِ الركبان مشرقاً ومغرباً ، فقد كان إمام المتقين
عليه الصلاة والسلام قمةً في تقواه وورعهِ ، وشدةِ خوفهِ من ربهِ العظيمِ
الجليل ، فكان يقومُ الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرتْ قدماه الشريفتان ، وكان
يُسمعُ لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من النشيجِ والبكاء ، وهو الذي غُفر له
ذنبه ما تقدم وما تأخر .
وأما
صحبهُ المبجل ، وخليفته العظيم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يقول :
يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل !! وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام ، وكان
من عادةِ الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدرِ الطعام ؛ تحرزاً من الحرام
!! فجاءه خادمُه مرةً بطعامه ، فنسي أن يسألَه كعادته فلما أكلَ منه لقمة
قال له خادمُه : لمَ لم تسألني - يا خليفةَ رسولِ الله - كسؤالكِ في كلِ
مرة ؟ قال أبو بكر : فمن أين الطعامُ يا غلام ؟ قال : دَفعه إليَّ أناسٌ
كنتُ أحسنتُ إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتُها لهم ، وهنا ارتعدتْ فرائصُ
الصديق ، وأدخلَ يده في فمــه ، وقاء كلَّ ما في بطنهِ وقال : "واللهِ لو
لم تخرجْ تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها" ، كل ذلك من شدةِ خوفه وتقواه
وتورعهِ عن الحرام ، وأما خوفُ عمر رضي الله عنه وشدةِ تقواه فعجبٌ من
العجب ، سمع قارئاً يقرأُ قولَه تعالى: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
جَهَنَّمَ دَعّاً } [الطور:13] فمرض ثلاثاً يعـودهُ الناس . بل إنه قرأ
مرةً قولَه تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات:24]
فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً ، وأما عليٌ رضي الله عنه فكان يقبض
لحيته في ظلمة الليل ويقول : يا دنيا غُري غيري أليَّ تزينتِ أم إليَّ
تشوقتِ طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن زادُك قليل وعمرُك قصير ، وخرج ابن
مسعود مرة في جماعة فقال لهم ألكم حاجة ؟! قالوا : لا ؛ ولكن حبُ المسيرِ
معك !! قال : اذهبوا فإنه ذلٌ للتابع ، وفتنةٌ للمتبوع .
واذا
ذهبنا الى غير الخلفاء الراشدين المكرمين ، فهاهو هارون الرشيد الخليفةُ
العباسيُ العظيم الذي أذلَّ القياصرة وكسرَ الأكاسرة والذي بلغت مملكته
أقاصي البلاد شرقاً وغرباً يخرج يوما في موكبهِ وأبهته فيقول له يهودي:
"يا أمير المؤمنين : اتق الله" !! فينـزل هارونُ من مَركبه ويسجدُ على
الأرض للهِ ربِ العالمين في تواضعٍ وخشوع ، ثم يأمرُ باليهودي ويقضي له
حاجته ، فلما قيل له في ذلك !! قال : لما سمعت مقولتَه تذكـرتُ قولَه
تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }[البقرة:206]
فخشيت أن أكون ذلك الرجل ، وكم من الناس اليوم من إذا قيل له اتق الله
احــمرتْ عيناه ، وانتفختْ أوداجه ، غضباً وغروراً بشأنه ، قال ابن مسعود
رضي الله عنه : كفى بالمرء إثماً أن يقال له: اتق الله فيقول:عليك نفسَك
!! مثلكُ ينصحنُي !!
إذن فيوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى ، جمعهم اللهُ بعد فرقة ، وأعزهم بعد
ذلة ، وفُتحت لهم البلاد ومُصرت لهم الأمصار كل ذلك تحقيقا لـموعودِ الله
تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف:96] فليكن هذا
الشهر بداية للباس التقوى ؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون...قال
تعالى:" وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ..." {(26) الأعراف}
وقال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:54-55].
*وصدق من قال:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى *** تجرد عُريانا وإن كان كاسيا
وخيرُ خصال المـرءِ طـاعةُ ربه *** ولا خيرَ فيمن كان لله عاصيا
* ثم أعلم أن رمضان فيه الصوم والصوم ينهي عن فعل المحرمات :
فإن الله تعالى قد نهى الصائم عن الأكل و الشرب و الوقاع في نهار رمضان، و
جعل ذلك مفسداً للصوم، فيتأكد على المسلم أيضاً أن يترك المحرمات في نهار
صومه و في ليالي شهره، و ذلك لأن الله الذي حرّم عليك في نهار رمضان أن
تأكل و أن تشرب؛ مع كون الأكل و الشرب من الشهوات النفسية التي تتناولها
النفس بطبعها و التي تعيش عليها و تموت بفقدها، فإن الله تعالى حرم عليك
محرمات أخرى هي أشد إثماً و أشد ضرراً و ليست بضرورية كضرورة الطعام و
الشراب، و قد ورد في ذلك كثير من الآثار نذكر بعضها:
1-
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إذا
كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، و لا يصخب و لا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه
فليقل إني امرؤٌ صائم"
(أخرجه البخاري 1904 في الصوم. باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم؟" و مسلم برقم 1151 في الصيام، باب: "فضل الصيام").
و الصخب هو: رفع الصوت بالكلام السيئ. و الرفث: هو الكلام في العورات، و
الكلام فيما يتعلق بالنساء و نحو ذلك. أما الفسوق: فهو الكلام السيئ الذي
فيه عصيان و فيه استهزاء وسخرية بشيء من الدين أو من الشريعة، و نحو ذلك.
فالصوم ينهي صاحبه عن هذه الأشياء. و كأنه يقول إن صيامي ينهاني عن هذا
الصخب -فإن الصوم ينهى عن المأثم، ينهى عن الحرام- فيقولك كيف أترك الطعام
و الشراب -الذي هو حلال- و آتي بما هو محرم في كل الأوقات؟
2-
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من
لم يدع قول الزور و العمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"
(أخرجه البخاري برقم 1903 في الصوم، باب: "من لم يدع قول الزور").
فالله تعالى ما كلفك أن تترك الطعام و الشراب إلا لتستفيد من هذا الترك،
فتترك الرفث، و تترك الفسوق، و تترك قول الزور، و تترك المعاصي المتعلقة
بالنساء و بالجوارح، فإن لم تفعل ذلك و لم تستفد من صيامك فالله تعالى
يرده عليك و لا يجزيك على عملك.
3-
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "رب
صائم حظه من صيامه الجوع و العطش، و رب قائم حظه من قيامه السهر"
(أخرجه ابن ماجة:برقم 1690، و أحمد في المسند 2/373، 441).
و لا شك أن الصوم الذي هذه آثاره لا ينتفع به صاحبه و لا يفيده؛ فإن الصوم
الصحيح يجادل عن صاحبه و يشهد له يوم القيامة و يشفع له عند الله
(وفى الحديث: أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.. ).، فإن لم يحفظ العبد صيامه لم يستفد منه و لم يؤجر عليه.
يقول بعضهم:
إذا لم يكن في السمع مني تصــاون وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع و الظمأ و إن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ
فلا بد أن يكون على الصائم آثار الصيام، كما روي عن جابر رضي الله عنه أنه
قال: "إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك عن الغيبة و النميمة، و دع أذى
الجار، و ليكن عليك سكينة و وقار، و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء".
* و بالجملة فالصوم الصحيح يدعو صاحبه إلى ترك المحرمات،
[size=21]
size]